الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **
فيها هرب علي بن دبيس بن صدقة من السلطان مسعود وكان قد أراد حبسه في قلعة تكريت فهرب إلى الحلة واستولى عليهما وكثر جمعه وقويت شوكته. وفيها اعتقـل الخليفـة المقتفـي أخـاه أبـا طالـب وضيـق عليـه وكذلـك احتـاط علـى غيـره مـن أقاربه. وفيها ملك الفرنج شنترين وتاجر وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس. وفيهما توفي مجاهد الدين بهروز وحكم في العراق نيفاً وثلاثين سنة وكان بهروز خصياً أبيض. وفيها توفي الشيخ أبو منصور مرهوب بن أحمد الجواليقي اللغوي ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة أخذ اللغة عن أبي زكريا التبريزي وكان يـؤم بالخليفـة المقتفـي وكـان طويل الصمت كثير التحقيق لا يقول الشيء إلا بعد فكر كثير. وكان يقول إذا سئل لا أدري وأخـذ العلـم عنه جماعة منهم تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي ومحب الدين أبو البقا وعبد الوهاب بن سكينه. وفيهـا توفـي أبـو بكـر يحيى بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة ومن شعره ما أورده في قلائد العقيان: يا أفتك الناس ألحاظاً وأطيبهم ريقاً متى كان فيك الصاب والعسل في صحن خدك وهو الشمس طالعة ورد يزيدك فيه الـراح والخجـل إيمـان حبـك فـي قلبي مجددة من خدك الكتب أو من لحظك الرسل إن كنت تجهل أني عبد مملكـة مرنـي بمـا شئـت آتيه وأمتثل لو اطلعت على قلبي وجدت به من فعل عينيك جرحاً ليس يندمل ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب وسبب ملكها أنهم نزلوا عليها وحصروها فلما كان اليوم الثالث من نزولهم سمع الفرنج فـي المدينة ضجة عظيمة وخلت الأسوار من المقاتلة وكان سببه أن أهل طرابلس اختلفوا فأراد طائفة منهم تقديم رجل من الملثمين ليكون أميرهم وأرادت طائفة أخرى تقديم بني مطـروح فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة وصعدوا بالسلالم وملكوها بالسيـف. فـي المحـرم مـن هـذه السنـة وسفكـوا دمـاء أهلهـا وبعـد أن استقر الفرنج في ملك طرابلس حصار عماد الدين زنكي حصني جعبر وفنك ومقتله: فـي هـذه السنـة سـار زنكي ونزل على قلعة جعبر وحصرها وصاحبها علي بن مالك بن سالم ابـن مالـك بـن بـدران بـن المقلد بن المسيب العقيلي. وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدولة الكردي البشنوي. ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسام البعلبكي الذي كان صاحب منبج يقـول لصاحـب قلعـة جعبر: قل لي من يخلصك مني فقال صاحب قلعة جعبر لحسان: يخلصني منه الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق. وكان بلك محاصراً المنبج فجاءه سهم فقتله فرجـع حسـان إلى زنكي ولم يخبره بذلك فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر فوثب عليه جماعة مـن مماليكـه وقتلـوه فـي خامـس فـي ربيـع الآخـر مـن هـذه السنـة بالليـل وهربوا إلى قلعة جعبر فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي فدخل أصحابه إليه وبه رمق وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة أسمر اللون مليح العينين قد وخطه الشيب. وكان قد زاد عمره على ستين سنة ودفن بالرقة. وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمها. وكان له الموصل وما معها من البلاد وملك الشام خلا دمشق. وكان شجاعاً وكانت الأعداء محيطة بمملكته من كل جهة وهو ينتصف منهم ويستولي على بلادهم ولما قتل زنكي كان ولده نور الدين محمود حاضراً عنده فأخذ خاتم والده وهو ميت من إصبعه وسار إلى حلب فملكها وكان صحبة زنكي أيضاً الملك ألب أرسلان بن محمود ابن السلطان محمد السلجوقي فركب في يوم قتل زنكي واجتمعت عليه العساكر فحسن له بعض أصحاب زنكي الأكل والشرب وسماع المغاني فسار ألب أرسلان إلـى الرقـة وأقـام بهـا منعكفـاً علـى ذلـك وأرسـل كبـراء دولـة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه بالحال وهو بشهرزور فسار إلى الموصل واستقر في ملكها وأما ألب أرسلان فتفرقت عنه العساكر وسار إلى الموصل يريد ملكها فلما وصلها قبض عليه غازي بن زنكي وحبسه في قلعة الموصل واستقر ملك سيف الدين غازي للموصل وغيرها. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل عبد المؤمن بن علي جيشاً إلى جزيرة الأندلس فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام واستولوا عليها. وفيهـا بعـد قتـل عمـاد الديـن زنكـي قصـد صاحـب دمشـق مجيـر الديـن أبـق حصـن بعلبـك وحصره وكان به نجم الديـن أيـوب بـن شـاذي مستحفظـاً فخـاف أن أولـاد زنكـي لا يمكنهـم إنجاده بالعاجل فصالحه وسلم القلعة إليه وأخذ منه قطاعاً وملكه عدة قرى من بلاد دمشق وانتقل أيوب إلى دمشق وسكنها وأقام بها. في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج ففتح منها مدينة أرتاح بالسف وحصر مامولة وبصر فوت وكفـر لاثا. ملك الفرنج المهدية بإفريقية وحال مملكة بني باديس كـان قـد حصـل بإفريقيـة غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضاً ودام من سنة سبع وثلاثين وخمسمائـة إلـى هـذه السنة ففارق الناس القرى ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلية. فاغتنم رجار الفرنجي صاحب صقلية هذه الفرصة وجهز أسطولاً نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً واسم مقدمهم جرج وساروا من صقلية إلـى جزيـرة قوصـرة وهـي مـا بيـن المهديـة وصقليـة وسـاروا منهـا وأشرفـوا علـى المهدية ثاني صفر من هذه السنة. وكان في المهدية الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية. فجمع كبراء البلد واستشارهم فرأوا ضعف حالهم وقلة المؤنة عندهم فاتفق رأي الأمير حسن ابن علي على إخلاء المهدية فخرج منها وأخذ معه ما خف حمله وخرج أهل المهدية على وجوههم بأهليهم وأولادهم وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية. ثم دخلوا المهدية بعد مضي ثلثي النهار المذكور بغير ممانع ولا مدافع ولم يكن قد بقي من المسلميـن بالمهديـة ممـن عـزم على الخروج أحد ودخل جرج مقدم الفرنج إلى قصر الأمير حسن بن علـي فوجـده على حاله لم يعدم منه إلا ما خف حمله ووجد فيه جماعة من حظايا الحسن بن علي ووجد الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة من كل شيء غريب يقل وجود مثلـه وسـار الأمير حسن بأهله وأولاده إلى بعض أمراء العرب ممن كان يحسن إليه وأقام عنده وأراد الحسن المسيـر إلـى الخليفـة العلـوي الحافظ صاحب مصر فلم يقدر على المسير لخوف الطرق فسار إلى ملـك بجايـة يحيـى بـن العزيـز مـن بنـي حمـاد فوكـل يحيى المذكور على الحسن وعلى أولاده من يمنعهم مـن التصـرف ولـم يجتمـع يحيـى بهـم وأنزلهـم فـي جزائر بني مزغنان وبقي الحسن كذلك حتى ملك عبـد المؤمـن بـن علـي بجايـة فـي سنـة سبـع وأربعيـن وخمسمائـة وأخذهـا هـي وجميـع ممالك بني حماد فحضـر الأميـر الحسـن عنده فأحسن إليه عبد المؤمن وأكرمه واستمر على ذلك في خدمة عبد المؤمـن إلـى أن فتـح المهديـة فأقـام فيهـا واليـاً مـن جهته وأمره أن يقتدي برأي الأمير حسن ويرجع إلى قوله وكان عدة من ملك من بني باديس بن مناذ إلى الحسن تسعة ملوك. وكانت ولايتهم في سنة إحدى وستين وثلاث مائة وانقضت في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم إن جرج بذل الأمـان لأهـل المهديـة وأرسـل وراءهـم بذلـك وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع فتراجعوا إلى المهدية. حصر الفرنج لدمشق فـي هـذه السنـة سار ملك الألمان والألمان بلادهم وراء القسطنطينية حتى وصل إلى الشام في جمع عظيم ونزل على دمشق وحصرها وصاحبها مجير الدين أتـق بـن محمـد بـن تـوري بـن طغتكيـن. والحكـم وتدبيـر المملكـة إنمـا هـو لمعيـن الديـن أتـز مملـوك جـده طغتكيـن. وفـي سـادس ربيع الـأول زحفـوا علـى مدينة دمشق ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر وأرسل أتز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فسار بعسكره من الموصل إلى الشام وسار معه أخوه نور الديـن محمـود بعسكـره ونزلـوا علـى حمـص ففـت ذلـك في أعضاد الفرنج وأرسل أتز إلى فرنج الشام يبذل لهم تسليم قلعة بانياس فتخلوا عن ملك الألمان وأشاروا عليه بالرحيل وخوفوه من إمداد المسلمين فرحل عن دمشق وعاد إلى بلاده وسلم أتز قلعة بانياس إلى الفرنج حسبما شرطه لهم. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة كان بين نور الدين محمود وبين الفرنج مصاف بأرض يغرى من العمق فانهزم الفرنـج وقتـل منهـم وأسـر جماعـة كثيـرة وأرسل من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل. وفيها ملـك الفرنـج مـن الأندلـس مدينـة طرطوشـة وجميـع قلاعهـا وحصـون لـارده وفيهـا كـان الغـلاء العـام مـن خراسـان إلـى العـراق إلـى الشـام إلى بلاد المغرب. وفي ربيع الأول من هذه السنة أعني سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة قتل نور الدولة شاهنشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الديـن قتلـه الفرنـج لمـا كانـوا منازلين دمشق فجرى بينهم وبين المسلمين مصاف قتل فيه شاهنشاه المذكـور وهـو أبـو الملـك المظفر عمر صاحب حماة وأبو فرخشاه صاحب بعلبك وكان شاهنشاه أكبر من صلاح الدين وكانا شقيقين. وفاة غازي بن زنكي في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك زنكي صاحب الموصل بمرض حاد في أواخر جمادى الآخرة وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراً وعشرين يوماً. وكان حسن الصورة ومولده سنـة خمسمائـة. وخلـف ولـدا ذكـراً فربـاه عمـه نـور الديـن وأحسـن تربيتـه. وتوفي المذكور شاباً وانقرض بموته عقب سيف الدين غازي. وكان سيف الدين المذكور كريماً يصنع لعسكره كل يوم طعاماً كثيراً بكرة وعشية وهو أول من حمل على رأسه السنجق في ركوبه وأمر الأجنـاد أن لا يركبـوا إلا بالسيـوف فـي أوساطهـم والدبوس تحت ركبهم. فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف ولما توفي سيف الدين غازي كان أخره قطب الدين مودود بن زنكي مقيماً بالموصل فاتفق جمال الدين الوزير وزين الدين علي أمير الجيش على تمليكه فحلفاه وحلفا له وكذلك باقـي العسكـر وأطاعـه جميـع بلاد أخيه سيف الدين. ولما تملك تزوج الخاتون ابنـة تمرتـاش صاحـب مارديـن وكـان أخـوه سيف الدين قد تزوجها ومات قبل الدخول بها وهي أم أولاد قطب الدين. وفاة الحافظ لدين الله العلوي وفـي هـذه السنـة فـي جمـادى الآخـرة توفـي الحافظ لدين الله عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر العلوي صاحب مصر وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر. وكان عمره نحو سبع وسبعين سنة ولم يل الخلافة من العلويين المصريين - من أبوه غير خليفة - غير الحافظ والعاضد على ما سنذكره. ولما توفي الحافظ بويع بعده ابنه الظافر بأمر الله أبـو منصـور إسماعيـل بـن الحافـظ عبـد المجيـد. واستـوزر ابن مصال فبقي أربعين يوماً وحضر من الإسكندرية العادل بن السلار وكان قد خرج ابن مصال من القاهرة في طلب بعض المفسدين فأرسل العادل بن السلار ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي وكان أبوه أبو الفتوح. قد فارق أخاه علي بن يحيى صاحب إفريقية وقدم إلى الديار المصرية وتوفي بها فتزوج العادل بن السلار بزوجة أبي الفتوح المذكور ومعهـا ولدهـا عبـاس بـن أبـي الفتـوح فربـاه العادل وأحسن تربيته ولما قدم العادل إلى مصر يريد الاستيلاء على الـوزارة أرسـل ربيبه عباساً في عسكر إلى ابن مصال فظفر به عباس وقتله وعاد إلى العادل بالقاهرة فاستقر العادل في الوزارة وتمكن ولم يكن للخليفة الظافر معه حكـم وبقـي العـادل كذلك إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فقتله ربيبه عباس المذكور وتولى الوزارة على ما سنذكره. وفـي هـذه السنة حصر نور الدين محمود بن زنكي حصن حارم فجمع البرنس صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين واقتتلوا فانتصر نور الدين وقتل البرنس وانهزم الفرنج وكثر القتل فيهم ولما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند وهـو طفـل وتزوجـت أمـه برجـل آخـر وتسمـى بالبرنـس. ثـم إن نـور الديـن غزاهم غزوة أخرى فهزمهم وقتل فيهم وأسر وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند فتمكن بيمند في ملك أنطاكية. وفيها زلزلت الأرض زلزلة شديدة. وفيها توفي معين الدين أنز صاحب دمشق وهو الذي كان إليه الحكم فيها وإليه ينسب قصير معين الدين الذي في الغور. وفيها تولى أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر وكان قبـل ذلك صاحب ديوان الزمام. وفيها توفي القاضي ناصح الدين الأرجاني وأرجان من أعمال تستـر وتولى المذكور قضاء تستر واسمه أحمد بن محمد بن الحسين وله الشعر الفائق فمن ذلك قوله: ولما بلوت الناس أطلب عندهم أخاً ثقة عند اعتراض الشدائد تطلعت في حالي رخاء وشدة وناديت في الأحياء هل من مساعد فلم أر فيما ساءني غير شامت ولم أر فيما سرني غير حاسد أعينـي كفا عن فؤادي فإنه من البغي سعي اثنين في قتل واحد وفيها توفي بمراكش القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي ومولده بها في سنة ست وسبعين وأربعمائة أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء وتكيفه وأشعاره شاهدة بذلك ومن تصانيفه: الإجمال في شرح كتاب مسلم. ومشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث. في هذه السنة رابع عشر المحرم أخذت العرب جميع الحجاج بين مكة والمدينة ذكر أن اسم ذلك المكان الغرابي فهلك أكثرهم ولم يصل منهم إلى البلاد إلا القليل. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى أفامية وحصر قلعتها وتسلمها من الفرنج وحصنها بالرجال والذخائر وكان قد اجتمع الفرنج وساروا ليرحلوه عنها فملكهـا قبـل وصولهم فلما بلغهم فتحها تفرقوا. وفيهـا سار الأذفونش صاحب طليطلة بجموع الفرنج إلى قرطبة وحصرها ثلاث أشهر ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها مات الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة. هزيمة نور الدين بن جوسلين ثم أسر جوسلين كـان جوسلين من أعظم فرسان الفرنج قد جمع بين الشجاعة وجودة الرأي وكان نور الدين قد عـزم علـى قصـد بلـاده فجمـع جوسليـن الفرنـج فأكثـر وسـار نحـو نور الدين والتقوا فانهزم المسلمون وقتل وأسر منهم جمع كثير وكان من جملة من أسر السلـاح دار ومعـه سلـاح نـور الدين فأرسله جوسليـن إلـى مسعـود بـن قليـج أرسلـان صاحـب قونيـة وأقسـرا وقـال: هـذا سلاح زوج ابنتك وسآتيك بعده بما هو أعظم منه فعظم ذلك على نور الدين وهجر الملاذ وفكـر فـي أمـر جوسلين وجمع التركمان وبذل لهم الوعود إن ظفروا به إما بإمساك أو بقتل فاتفق أن جوسلين طلع إلى الصيد فكبسه التركمان وأمسكوه فبذل لهم مالاً فأجابوه إلـى إطلاقـه فسار بعض التركمان وأعلم أبا بكر ابن الداية نائب نور الدين بحلب فأرسل عسكراً كبسوا التركمـان الذيـن عندهـم جوسليـن وأحضروه إلى نور الدين أسيراً. وكان أسر جوسلين من أعظم الفتوح وأصيبت النصرانية كافة بأسره ولما أسر سار نور الدين إلى بلاد جوسليـن وقلاعـه فملكهـا وهـي تـل باشر وعين تاب وذلوك وعزاز وتل خالد وقورس والرواندان وبرج الرصاص وحصن البـاره وكفـر سـود وكفـر لاثـا ومرعـش ونهـر الجـوز وغيـر ذلـك. فـي مـدة يسيرة. وكان نور الدين كلما فتح منه موضعاً حصنه بما يحتاج إليه من الرجال والذخائر. مـن الكامـل فـي هـذه السنـة سـار عبـد المؤمـن بـن علـي إلى بجاية وملكها وملك جميع ممالك بني حماد وأخذها من صاحبها يحيى بن العزيز بن حماد آخر ملـوك بنـي حمـاد وكان يحيى المذكور مولعاً بالصيد واللهو لا ينظر في شيء من أمور مملكته ولما هزم عبد المؤمن عسكر يحيى هرب يحيى وتحصن بقلعة قسطنطينية من بلاد بجاية ثم نزل يحيـى إلـى عبـد المؤمـن بالأمان فأمنه وأرسله إلى بلاد المغرب وأقام بها وأجرى عبد المؤمن عليه شيئاً كثيراً. وقـد ذكـر فـي تاريـخ القيـروان: أن مسيـر عبـد المؤمـن وملكـة تونـس وإفريقيـة إنمـا كـان فـي سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وفاة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه وملك ملكشاه ومحمد ابني محمود: وفـي هـذه السنـة وقيـل فـي أواخر سنة ست وأربعين في أول رجب توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمدان ومولده سنـة اثنتيـن وخمسمائـة فـي ذي القعـدة ومـات معـه سعـادة البيت السلجوقي فلم يقم لهم بعده راية يعتد بها وكان حسن الأخلاق كثير المزاح والانبساط مع الناس كريماً عفيفاً عن أموال الرعايا. ولما مات عهد بالملك إلى ابن أخيه ملكشاه بن محمود فقعد في السلطنة وخطب له وكان المتغلب على المملكة أميراً يقال له خاص بك وأصله صبي تركماني اتصل بخدمـة السلطـان مسعود فتقدم على سائر أمرائه ثم إن خاص بك المذكور قبض على السلطـان ملكشـاه بـن محمود وسجنه وأرسل إلى أخيه محمد ابن محمود وهو بخورستان فأحضره وتولى السلطنة وجلـس علـى السريـر وكـان قصـد خـاص بك أن يمسكه ويخطب لنفسه بالسلطنة فبدره السلطان محمد في ثاني يوم وصوله فقتل خاص بك وقتل معه زنكي الجاندار وألقى برأسيهما فتفرق أصحابهما. فتح دلوك في هذه السنة جمعت الفرنج وساروا إلى نور الدين وهو محاصر دلوك فرحل عنها وقاتلهم أشد قتال الناس وانهزمت الفرنج وقتل وأسر كثير منهم ثم عاد نور الدين إلى دلوك فملكها ومما مدح به في ذلك: أعـدت بعصـرك هذا الجديد فتوح النبي وأعصارها وفـي تـل باشـر باشرتهم بزحف تسور أسوارها وإن دالكتهم دلوك فقد سـددت فصدقت أخبارها ذكر ابتداء ظهور الملوك الغورية وانقراض دولة آل سبكتكتين: أول مـن اشتهر من الملوك الغورية أولاد الحسين. وأولهم محمد بن الحسين وكان قد صاهر بهرام شاه بن مسعود صاحب غزنة من آل سبكتكين وسار محمد بن الحسين المذكور إلى غزنة تظهر الطاعة لبهرام شاه ويبطن الغدر فأمسكه بهرام شاه وقتله. فتولى بعده في ملك الغورية أخوه سودي بن الحسين وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه وجرى القتال بينه وبين بهرام شاه فظفر بهرام شاه بسودي وقتله أيضاً وانهزم عسكره. ثـم ملك بعدهما أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين وسار إلى غزنة فانهزم عنها صاحبها بهرام شاه واستولى علاء الدين الحسين على غزنة وأقام فيها أخـاه سيـف الديـن سـام بـن الحسيـن وعـاد عـلاء الديـن الحسيـن بـن الحسيـن إلـى الغـور فكاتـب أهل غزنة بهرام شاه فسار إليهم واقتتل مع سيف الدين الغوري فانتصر بهرام شاه وظفر بسيف الدين سام فقتله واستقر بهرام شـاه فـي ملـك غزنـة. ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه وتجهز علاء الدين الحسين ملك الغورية وسار إلى غزنة في سنة خمسين وخمسمائة فلما قرب منها فارقهـا صاحبهـا خسروشاه بن بهرام شاه وسار إلى لهاوور وملك علاء الدين الحسين بن الحسين غزنة ونهبها ثلاثة أيام وتلقب علاء الدين بالسلطان المعظم وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية. وأقـام الحسين على ذلك مدة واستعمل على غزنة ابني أخبه وهما غياث الدين محمد بن سام وأخـوه شهـاب الديـن محمـد بـن سـام. ثـم جـرى بينهمـا وبيـن عمهمـا عـلاء الديـن الحسيـن حرب انتصر فيه على عمهما وأسراه ولما أسراه أطلقاه وأجلساه على التخت ووقفا في خدمته واستمر عمهما في السلطنة وزوج غياث الدين بابنته وجعله ولي عهده وبقي كذلك إلى أن مات علاء الدين الحسين بن الحسين في سنة ست وخمسين وخمسمائة على ما نذكره. وملك بعده غياث الدين محمد بن سام بن الحسين وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك ثم استولـى الغـز علـى غزنـة وملكوهـا منـه مـدة خمـس عشرة سنة ثم أرسل غياث الدين أخاه شهاب الدين إلى غزنة فسار إليها وهزم الغز وقتل منهم خلقاً كثيراً واستولى على غزنة وما جاورها من البلاد مثل كرمان وشنوران وماه السند وقصد لهاوور وبها يومئذ خسرو شاه بن بهرام شـاه السبكتكيني فملكها شهاب الدين في سنة تسع وسبعين وخمسمائة بعد حصار وأعطى خسروشاه الأمان وحلف له فحضر خسروشاه عند شهاب الدين بن سام المذكـور فأكرمـه شهاب الدين وأقام خسروشاه على ذلك شهرين ولما بلغ غياث الدين بن سام ذلك أرسل إلى أخيه شهاب الدين يطلب منه خسروشاه فأمره شهاب الدين بالتوجه فقال خسروشاه: أنا ما أعرف أخاك ولا سلمت نفسي إلا إليك فطيب شهاب الدين خاطره وأرسلـه وأرسـل أيضـاً ابن خسروشاه مع أبيه إلى غياث الدين وأرسل معهما عسكراً يحفظونهما فلمـا وصلـوا إلـى الغور لم يجتمع بهما غياث الدين بل أمر بهما فرفعا إلى بعض. القلاع وكان آخر العهد بهما وخسروشـاه المذكـور هـو ابـن بهـرام شـاه بـن مسعـود بـن إبراهيـم بـن مسعود بن محمود بن سبكتكين وهو آخر ملوك آل سبكتكين. وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريباً فيكون انقراض دولتهم في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وقدمنا ذلك لتتصل أخبارهم وكان ملوكهـم مـن أحسـن الملـوك سيـرة وقيـل إن خسروشـاه توفي في الملك وملك بعده ابنه ملكشاه على ما نشير إليه في مواضعه إن شاء الله تعالى. ولمـا استقـر ملـك الغوريـة بلهـاوور واتسعـت مملكتهم وكثرت عساكرهم كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة له بالسلطنة وتلقب بألقاب منها: معين الإسلام قسيم أمير المؤمنين. ولما استقر ذلك سار شهاب الديـن إلـى أخيـه غيـاث الديـن واجتمعـا وسـار إلـى خراسـان وقصدا مدينة هراة وحصراها وتسلمها غياث الدين بالأمان. ثم سار ومعه شهاب الدين في عساكرهما إلى بوشنج فملكها ثم عاد إلى باذغيس وكالين وبيوار فملكها. ثـم رجع غياث الدين إلى بلدة فيروزكوه ورجع أخوه شهاب الدين إلى غزنة ولما استقر شهاب الدين بغزنة قصد بلاد الهند وفتح مدينة آجر. ثم عـاد إلـى غزنـة ثـم قصـد الهنـد فذلـل صعابها وتيسر له فتح الكثير من بلادهم ودوخ ملوكهم وبلغ منهم ما لم يبلغ أحد من ملوك المسلميـن ولمـا كثـر فتوحه في الهند اجتمعت الهنود مع ملوكهم في خلق كثير والتقوا مع شهاب الدين وجرى بينهم قتال عظيم فانهزم المسلمون وجرح شهاب الدين وبقي بيـن القتلـى. ثـم اجتمعـت عليـه أصحابه وحملوه إلى مدينة آجر واجتمعت عليه عساكره وأقام شهاب الدين في آجر حتى آتاه المدد من أخيه غياث الدين. ثم اجتمعت الهنود وتنازل الجمعان وبينهما نهر فكبس عساكر المسلمين الهنود وتمت الهزيمة عليهم وقتل المسلمون من الهنود ما يفوق الحصر وقتلت ملكتهم وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي وهي من كراسي ممالك الهند فأرسل أيبك عسكراً مع مقدم يقال له محمد بن بختيار فملكوا من الهند مواضع ما وصلها مسلم قبله حتى قاربوا جهة الصين. ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة توفي حسام الدين تمرتاش بن أيلغـازي صاحـب مارديـن وميافارقيـن وكانـت ولايتـه نيفـاً وثلاثيـن سنة لأنه ولي بعد موت أبيه في سنة ست عشرة وخمسمائة حسبما تقدم ذكره وتولى بعده ابنه نجم الدين البلي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق.
|